سورة يوسف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)}
اعلم أنه تعالى لما حكى عنها أنها {هَمَّتْ} أتبعه بكيفية طلبها وهربه فقال: {واستبقا الباب} والمراد أنه هرب منها وحاول الخروج من الباب وعدت المرأة خلفه لتجذبه إلى نفسها، والاستباق طلب السبق إلى الشيء، ومعناه تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف فتح الباب وخرج، وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج، وقوله: {واستبقا الباب} أي استبقا إلى الباب كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [الأعراف: 155] أي من قومه.
واعلم أن يوسف عليه السلام سبقها إلى الباب وأراد الخروج والمرأة تعدو خلقه فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته، أي قطعته طولاً، وفي ذلك الوقت حضر زوجها وهو المراد من قوله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لدى الباب} أي صادفا بعلها تقول المرأة لبعلها سيدي، وإنما لم يقل سيدهما لأن يوسف عليه السلام ما كان مملوكاً لذلك الرجل في الحقيقة، فعند ذلك خافت المرأة من التهمة فبادرت إلى أن رمت يوسف بالفعل القبيح، وقالت: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والمعنى ظاهر. وفي الآية لطائف: إحداها: أن ما يحتمل أن تكون نافية، أي ليس جزاؤه إلا السجن، ويجوز أيضاً أن تكون استفهامية يعني أي شيء جزاؤه إلا أن يسجن كما تقول: من في الدار إلا زيد.
وثانيها: أن حبها الشديد ليوسف حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن، وأخرت ذكر العذاب، لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً أنها لم تذكر أن يوسف يجب أن يعامل بأحد هذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كلياً صوناً للمحبوب عن الذكر بالسوء والألم، وأيضاً قالت: {إِلا أَن يُسْجَنَ} والمراد أن يسجن يوماً أو أقل على سبيل التخفيف.
فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر بهذه العبارة، بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين ألا ترى أن فرعون هكذا قال حين تهدد موسى عليه السلام في قوله: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29].
وثالثها: أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أنه كان في عنفوان العمر وكمال القوة ونهاية الشهوة، عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول إن يوسف عليه السلام قصدني بالسوء، وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض، فانظر إلى تلك المرأة ما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب وأن هؤلاء الحشوية يرمونه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بهذا الذنب القبيح.
ورابعها: أن يوسف عليه السلام أراد يضربها ويدفعها عن نفسه، وكان ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السوء فقولها: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ} جارياً مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي.
واعلم أن المرأة لما ذكرت هذا الكلام ولطخت عرض يوسف عليه السلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال: {هي راودتني عن نفسي}، وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر.
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق: فالأول: أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني: أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه، والثالث: أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى.
الرابع: أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر، وذلك أيضاً مما يقوي الظن.
الخامس: أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً، وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف؛ السادس: قيل: إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى، فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة، ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة، وهو قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} وفي هذا الشاهد ثلاثة أقوال: الأول: أنه كان لها ابن عم وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه، قال ابن عمها: {إِنَّهُ مِنَ كَيْدَكُن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي من عملكن. ثم قال ليوسف أعرض عن هذا واكتمه، وقال لها استغفري لذنبك، وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين.
والثاني: وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك: إن ذلك الشاهد كان صبياً أنطقه الله تعالى في المهد، فقال ابن عباس: تكلم في المهد أربعة صغار شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون، وعيسى بن مريم، وصاحب جريج الراهب قال الجبائي: والقول الأول أولى لوجوه:
الأول: أنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً، لأنه من البراهين القاطعة القاهرة، والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز.
الثاني: أنه تعالى قال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} وإنما قال من أهلها ليكون أولى بالقبول في حق المرأة لأن الظاهر من حال من يكون من أقرباء المرأة ومن أهلها أن لا يقصدها بالسوء والإضرار، فالمقصود بذكر كون ذلك الرجل من أهلها تقوية قول ذلك الرجل وهذه الترجيحات إنما يصار إليها عند كون الدلالة ظنية، ولو كان هذا القول صادراً عن الصبي الذي في المهد لكان قوله حجة قاطعة ولا يتفاوت الحال بين أن يكون من أهلها، وبين أن لا يكون من أهلها وحينئذ لا يبقى لهذا القيد أثر.
والثالث: أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا على من تقدمت له معرفة بالواقعة وإحاطة بها.
والقول الثالث: أن ذلك الشاهد هو القميص، قال مجاهد: الشاهد كون قميصه مشقوقاً من دبر، وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أن القول الأول عليه أيضاً إشكال وذلك لأن العلامة المذكورة لا تدل قطعاً على براءة يوسف عليه السلام عن المعصية لأن من المحتمل أن الرجل قصد المرأة لطلب الزنا فالمرأة غضبت عليه فهرب الرجل فعدت المرأة خلف الرجل وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً فعلى هذا الوجه يكون القميص متخرقاً من دبر مع أن المرأة تكون برية عن الذنب والرجل يكون مذنباً.
وجوابه: أنا بينا أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعولوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقويات والمرجحات.
ثم إنه تعالى أخبر وقال: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ} وذلك يحتمل السيد الذي هو زوجها ويحتمل الشاهد فلذلك اختلفوا فيه، قال: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} أي أن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً من كيدكن إن كيدكن عظيم.
فإن قيل: إنه تعالى لما خلق الإنسان ضعيفاً فكيف وصف كيد المرأة بالعظم، وأيضاً فكيد الرجال قد يزيد على كيد النساء.
والجواب عن الأول: أن خلقة الإنسان بالنسبة إلى خلقة الملائكة والسموات والكواكب خلقة ضعيفة وكيد النسوات بالنسبة إلى كيد البشر عظيم ولا منافاة بين القولين وأيضاً فالنساء لهن في هذا الباب من المكر والحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال.
واعلم أنه لما ظهر للقوم براءة يوسف عليه السلام عن ذلك الفعل المنكر حكى تعالى عنه أنه قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} فقيل: إن هذا من قول العزيز، وقيل: إنه من قول الشاهد، ومعناه: أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها، وكما أمر يوسف بكتمان هذه الواقعة أمر المرأة بالاستغفار فقال: {واستغفرى لِذَنبِكِ} وظاهر ذلك طلب المغفرة، ويحتمل أن يكون المراد من الزوج ويكون معنى المغفرة العفو والصفح، وعلى هذا التقدير فالأقرب أن قائل هذا القول هو الشاهد، ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله، لأن أولئك الأقوام كانوا يثبتون الصانع، إلا أنهم مع ذلك كانوا يعبدون الأوثان بدليل أن يوسف عليه السلام قال: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] وعلى هذا التقدير: فيجوز أن يكون القائل هو الزوج. وقوله: {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} نسبة لها إلى أنها كانت كثيرة الخطأ فيما تقدم، وهذا أحد ما يدل على أن الزوج عرف في أول الأمر أن الذنب للمرأة لا ليوسف، لأنه كان يعرف عنها إقدامها على ما لا ينبغي.
وقال أبو بكر الأصم: إن ذلك لزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار.
قال صاحب الكشاف: وإنما قال من الخاطئين بلفظ التذكير، تغليباً للذكور على الإناث، ويحتمل أن يقال: المراد إنك من نسل الخاطئين، فمن ذلك النسل سرى هذا العرق الخبيث فيك. والله أعلم.


{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لم لم يقل: {وَقَالَت نِسْوَةٌ} قلنا لوجهين:
الأول: أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث.
الثاني: قال الواحدي تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع.
المسألة الثانية: قال الكلبي: هن أربع، امرأة ساقي العزيز. وامرأة خبازه وامرأة صاحب سجنه. وامرأة صاحب دوابه، وزاد مقاتل وامرأة الحاجب. والأشبه أن تلك الواقعة شاعت في البلد واشتهرت وتحدث بها النساء. وامرأة العزيز هي هذه المرأة المعلومة {تُرَاوِدُ فتاها عَن نَّفْسِهِ} الفتى الحدث الشاب والفتاة الجارية الشابة {قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن الشغاف فيه وجوه:
الأول: أن الشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب يقال شغفت فلاناً إذا أصبت شغافه كما تقول كبدته أي أصبت كبده فقوله: {شَغَفَهَا حُبّا} أي دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب.
والثاني: أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب، ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا تعقل سواه ولا يخطر ببالها إلا إياه.
والثالث: قال الزجاج: الشغاف حبة القلب وسويداء القلب. والمعنى: أنه وصل حبه إلى سويداء قلبها، وبالجملة فهذا كناية عن الحب الشديد والعشق العظيم.
المسألة الثانية: قرأ جماعة من الصحابة والتابعين {شعفها} بالعين.
قال ابن السكيت: يقال شعفه الهوى إذا بلغ إلى حد الاحتراق، وشعف الهناء البعير إذا بلغ منه الألم إلى حد الاحتراق، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى فقال: الشعف بالعين إحراق الحب القلب مع لذة يجدها، كما أن البعير إذا هنئ بالقطران يبلغ منه مثل ذلك ثم يستروح إليه.
وقال ابن الأنباري: الشعف رؤوس الجبال، ومعنى شعف بفلان إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه.
المسألة الثالثة: قوله: {حبها} نصب على التمييز.
ثم قال: {حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضلال مُّبِينٍ} أي في ضلال عن طريق الرشد بسبب حبها إياه كقوله: {إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ} [يوسف: 8].
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المراد من قوله: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أنها سمعت قولهن وإنما سمي قولهن مكراً لوجوه:
الأول: أن النسوة إنما ذكرت ذلك الكلام استدعاء لرؤية يوسف عليه السلام والنظر إلى وجهه لأنهن عرفن أنهن إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهن ليتمهد عذرها عندهن.
الثاني: أن امرأة العزيز أسرت إليهن حبها ليوسف وطلبت منهن كتمان هذا السر، فلما أظهرن السر كان ذلك غدراً ومكراً.
الثالث: أنهن وقعن في غيبتها، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر.
المسألة الثانية: أنها لما سمعت أنهن يلمنها على تلك المحبة المفرطة أرادت إبداء عذرها فاتخذت مائدة ودعت جماعة من أكابرهن وأعتدت لهن متكأ، وفي تفسيره وجوه:
الأول: المتكأ النمرق الذي يتكأ عليه.
الثاني: أن المتكأ هو الطعام.
قال العتبي والأصل فيه أن من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسادة تسمى الطعام متكأ على الاستعارة، والثالث: متكأ أترجاً، وهو قول وهب وأنكر أبو عبيد ذلك ولكنه محمول على أنها وضعت عندهن أنواع الفاكهة في ذلك المجلس.
والرابع: متكأ طعاماً يحتاج إلى أن يقطع بالسكين، لأن الطعام متى كان كذلك احتاج الإنسان إلى أن يتكأ عليه عند القطع. ثم نقول: حاصل ذلك أنها دعت أولئك النسوة وأعدت لكل واحدة منهن مجلساً معيناً وآتت كل واحدة منهن سكيناً أي لأجل أكل الفاكهة أو لأجل قطع اللحم ثم إنها أمرت يوسف عليه السلام بأن يخرج إليهن ويعبر عليهن وأنه عليه السلام ما قدر على مخالتها خوفاً منها {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: في {أَكْبَرْنَهُ} قولان: الأول: أعظمنه.
والثاني: {أكبرن} بمعنى حضن.
قال الأزهري والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وفيه وجه آخر، وهو أن المرأة إذا خافت وفزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت، فإن صح تفسير الإكبار بالحيض فالسبب فيه ما ذكرناه وقوله: {قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} كناية عن دهشتهن وحيرتهن، والسبب في حسن هذه الكناية أنها لما دهشت فكانت تظن أنها تقطع الفاكهة وكانت تقطع يد نفسها، أو يقال: إنها لما دهشت صارت بحيث لا تميز نصابها من حديدها وكانت تأخذ الجانب الحاد من ذلك السكين بكفها فكان يحصل الجراحة في كفها.
المسألة الثالثة: اتفق الأكثرون على أنهن إنما أكبرنه بحسب الجمال الفائق والحسن الكامل قيل: كان فضل يوسف على الناس في الفضل والحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مررت بيوسف عليه السلام ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل عليه السلام من هذا؟ فقال هذا يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر وقيل: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها، وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه»، وهذا القول هو الذي اتفقوا عليه، وعندي أنه يحتمل وجهاً آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والاحتشام، وشاهدن منها مهابة النبوة، وهيئة الملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح، وعدم الاعتداد بهن، وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وعظمنه، ووقع الرعب والمهابة منه في قلوبهن، وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه أولى.
فإن قيل: فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينطبق على هذا التأويل قولها: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِى فِيهِ} وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوة العشق وإفراط المحبة؟
قلنا: قد تقرر أن الممنوع متبوع فكأنها قالت لهن مع هذا الخلق العجيب وهذه السيرة الملكية الطاهرة المطهرة فحسنه يوجب الحب الشديد وسيرته الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه فلهذا السبب وقعت في المحبة، والحسرة، والأرق والقلق، وهذا الوجه في تأويل الآية أحسن والله أعلم.
المسألة الثالثة: قرأ أبو عمرو {وَقُلْنَ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد، والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعاً للمصحف وحاشا كلمة يفيد معنى التنزيه، والمعنى هاهنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله.
أما قوله: {حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله.
المسألة الرابعة: قوله: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} فيه وجهان:
الوجه الأول: وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له قالوا: لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان، ولذلك قال تعالى في صفة جهنم {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين} [الصافات: 65] وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا هاهنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك.
والوجه الثاني: وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة، وجواذب الغضب، ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى، ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن ألبتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة، وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثراً من أثر الشهوة، ولا شيئاً من البشرية، ولا صفة من الإنسانية، فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر، وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية.
فإن قالوا: فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة؟ فالجواب قد سبق. والله أعلم.
المسألة الخامسة: القائلون بأن الملك أفضل من البشر احتجوا بهذه الآية فقالوا: لا شك إنهن إنما ذكرت هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام. فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سبباً لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالاً من البشر، ثم نقول: لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر، أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن، والأول باطل لوجهين:
الأول: أنهم وصفوه بكونه كريماً، وإنما يكون كريماً بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة، والثاني: أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة.
أما كونه بعيداً عن الشهوة والغضب معرضاً عن اللذات الجسمانية متوجهاً إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب، والروح فيه فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة.
وإذا ثبت هذا فنقول: تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه ألبتة، فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن، لا في الصورة الظاهرة، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان من هذه الفضائل، فثبت أن الملك أفضل من البشر والله أعلم.
المسألة السادسة: لغة أهل الحجاز إعمال ما عمل ليس وبها ورد قوله: {مَا هذا بَشَرًا} ومنها قوله: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} [المجادلة: 2] ومن قرأ على لغة بني تميم. قرأ {مَا هذا بَشَرًا} وهي قراءة ابن مسعود وقرئ {مَا هذا بَشَرًا} أي ما هو بعبد مملوك للبشر {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} ثم نقول: ما هذا بشراً، أي حاصل بشراً بمعنى هذا مشترى، وتقول: هذا لك بشراً أم بكراً، والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف، ولمقابلة البشر للملك.


{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}
اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين، عظم ذلك عليها فجمعتهن {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها.
فإن قيل: فلم قالت: {فذلكن} مع أن يوسف عليه السلام كان حاضراً؟
والجواب عنه من وجوه:
الأول: قال ابن الأنباري: أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس.
والثاني: وهو الذي ذكره صاحب الكشاف وهو أحسن ما قيل: إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني، فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت: هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني: أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة.
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم}.
واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئاً عن تلك التهمة، وعن السدي أنه قال: {فاستعصم} بعد حل السراويل وما الذي يحمله على إلحاق هذه الزيادة الفاسدة الباطلة بنص الكتاب.
ثم قال: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين} والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام، وقوله: {وَلَيَكُونًا} كان حمزة والكسائي يقفان على {وَلَيَكُونًا} بالألف، وكذلك قوله: {لَنَسْفَعاً} [العلق: 15] والله أعلم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9